هل يمكن التوافق بين "الوافد" و"الموروث"؟

هل يمكن التوافق بين "الوافد" و"الموروث"؟

ضياء رشوان

يمر عالمنا العربي بمختلف دوله وبدرجات متنوعة بمرحلة انتقالية شديدة الحساسية والاضطراب بدأت بالاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003, ومن غير المنتظر، كما تؤكد شواهد عديدة، أن تنتهي قريباً. وقد زاد من حساسية وخطورة هذه المرحلة الانتقالية وقوع العدوانين الإسرائيليين: ضد لبنان عام 2006 ثم غزة العام الحالي، حيث دفعا إلى السطح عديداً من الظواهر والمشاهد الجديدة التي لم يكن لها وجود من قبل في عالمنا العربي التي راحت اليوم تشكل بعضاً من ملامح تلك المرحلة الانتقالية.

ولعل أحد الملامح الأكثر بروزاً لهذه المرحلة هو ذلك الصراع المحتدم بين "الوافد والموروث" بحسب تعبير أستاذنا المؤرخ الكبير طارق البشري، الذي بدأ في حقيقة الأمر منذ قدوم الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1798 واستمر قائماً حتى اليوم بصور مختلفة في أرجاء وطننا العربي. هذا الصراع يمكن تلخيصه في التنازع حول هوية المجتمعات العربية بين تيار يرى أنها يجب أن تقوم على "الموروث" الذي يشكل الإسلام بكل أبعاده الدينية والاجتماعية والثقافية قلبه، وتيار آخر يعتقد أنه يجب تغيير تلك الهوية لكي تستمد جوهرها من "الوافد" الذي تمثله القيم الغربية بكل جوانبها. وقد نبع تصاعد خطورة هذا الصراع في المرحلة الحالية التي نمر بها من كثافة وعنف الهجوم الغربي على منطقتنا، الذي قادته الإدارة الأمريكية السابقة واتخذ الأشكال العسكرية والسياسية والثقافية والإعلامية كافة بحجة محاربة الإرهاب"، وهو الأمر الذي أدى إلى تدعيم تيار مناصرة "الوافد" وزيادة شعوره بأنه على وشك الانتصار على التيار الآخر المساند للموروث وإقصائه تماماً من المجتمعات العربية. إلا أن هذا الهجوم الغربي نفسه وما اتسم به من عنف وكثافة كان هو الدافع الرئيس وراء تصاعد مكانة وانتشار وقوة تيار "الموروث"، الذي جسدته بصفة رئيسية القوى الإسلامية المعتدلة وبعضاً من القوى القومية العربية، حيث بدا لعموم الناس باعتباره المتقدم في الصفوف الأولى لمواجهة الهجوم الغربي المندفع نحو مجتمعاتنا العربية.

ووسط التنازع الذي راحت حدته تتزايد بين تياري "الوافد" و"الموروث" برزت ظواهر أخرى أكثر خطورة وتعقيداً، كان أبرزها الصراع بين المذاهب الإسلامية نفسها، الذي لم نكن نسمع عنه قط إلا في بعض البلدان ذات الطبيعة الخاصة مثل لبنان، حيث كان يتخذ طابعا سياسيا أكثر منه طائفيا أو مذهبيا، وهو ما زاد من درجة وحدة الانقسامات في مجتمعاتنا العربية.

وعلى الصعيد السياسي برزت أيضاً ظواهر مماثلة في خطورتها وتعقيدها ودار بعضها حول طريقة حل الصراع العربي ـ الإسرائيلي وبعضها الآخر حول طبيعة الدولة والأسس التي يجب أن يستند إليها العمل السياسي في مختلف البلدان العربية. وزاد من خطورة تلك المرحلة الانتقالية التي يمر بها عالمنا العربي الانقسام الحاد الذي عرفته النظم السياسية في بلدانه حول عديد من القضايا العربية والإقليمية وتوزعها بين محاور مختلفة دارت فيما بينها مراحل وصور متعددة من الصراع المفتوح.

وقد بدا واضحاً في ذلك المشهد العربي المعقد والمتشابك أن تلك المرحلة الانتقالية لن تستقر إلا بجهد هائل، لأن العوامل التي تضخ من خارجنا وأيضاً من داخلنا لخلق مزيد من الصراعات وإشعال ما هو قائم منها كثيرة ومتدافعة، وبالتالي فلا بد أن يكون الجهد أكبر بكثير من قوة واندفاع هذه العوامل الدافعة للصراعات. ولعل الجهد الحقيقي الذي يمكن للمخلصين في بلداننا أن يبذلوه من أجل تجاوز خلاق لتلك المرحلة الانتقالية وجوهر الصراع فيها بين "الوافد والموروث" هو البحث عن توافق بين التيارين المعبرين عن كل منهما.

التوافق المقصود هنا ليس المقصود به "تلفيق" صيغة مؤقتة للتعايش بينهما، بل التوصل لقبول حقيقي من كليهما لما يشبه العقد الاجتماعي الذي يمكن له أن ينظم جميع صيغ ومحاور الوجود الاجتماعي العربي ويكون قائماً على ما هو موجود فيه بالفعل من مقومات ثابتة. وهذا التوافق الذي لا يمكن أن يشيد من خارج تاريخنا لا بد أن يكون للدين الإسلامي فيه موقع رئيس، ليس فقط باعتباره دين الأغلبية من العرب، ولكن أيضاً لأنه المكون الأساسي للقيم والثقافة والسلوكيات الاجتماعية التي قامت عليها المجتمعات العربية. قبول الدين في مجتمعاتنا لا بد أن يتوافق عليه الطرفان وأن يكونا واعيين أن مجتمعات أخرى أيضاً خارج بلادنا وبعضها في البلدان الغربية قد توافقت على وجود ما للدين، فقد حدث هذا في إيطاليا وفي ألمانيا والولايات المتحدة، فضلاً عن دول أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي السابق.

إن التوافق المبدئي حول دور الدين الإسلامي الرئيس في صياغة وجودنا الاجتماعي والتاريخي العربي لا يعني على الإطلاق أن تخلى الساحة المجتمعية والسياسية من التيارات الفكرية والسياسية كافة عدا الإسلامية منها، فهذا هو عين الاحتكار والاستبداد، بل هو يعني أن تتسع هذه الساحة لكل التيارات الأخرى التي يحق لها الاختلاف مع التيارات الإسلامية في كل شيء عدا أن يتوافقوا جميعاً على دور الدين المركزي في تلك الصياغة المشار إليها.

إن تاريخنا الإسلامي والعربي الطويل يؤكد لنا أن استقرار هذا التوافق خلاله لم يمنع على الإطلاق من تعدد القوى السياسية والفكرية واختلافها العميق حول أفضل السبل لتقدم بلادنا ومجتمعاتنا، وهو ما كان بحسب كثير من الدارسين أبرز العوامل التي قامت عليها نهضتنا الكبيرة خلال بعض فترات هذا التاريخ الطويل.


آخر تحديث
5/31/2009 9:53:13 PM